سورة الأعراف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}.
التفسير:
فى الآيات السابقة جاء قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} ليلفت الناس- وهم في أول لقائهم بهذه الحياة- إلى ما في الأرض وما عليها من خير كثير، بثّه اللّه فيها، وأن أول ما ينبغى أن يحصّلوه من هذا الخير، أن يستروا سوآتهم، ليخرجوا من عالم الحيوان، وليكونوا الإنسان الذي جعله اللّه خليفة له في الأرض. ثم ليتجملوا بعد هذا، ويتزينوا بما شاءوا، ثم ليستروا كيانهم الداخلى ويجملوه بالتقوى.
وفى هذه الآيات يدعو اللّه النّاس- بعد أن استوفوا حظوظهم من زينة الحياة، وصار إلى أيديهم الكثير منها- يدعوهم إلى ألّا تكون هذه الزينة التي اتخذوها حلى يتحلّون بها في أوقات لهوهم، أو في محافلهم وأنديتهم، وحسب، وإنما الذي ينبغى أن يتزينوا له، ويحتفوا بلقائه قبل كل شىء، هو بيت اللّه الذي يقفون فيه بين يدى اللّه، يناجونه ويوجهون وجوههم إليه.
فهذا الاحتفاء ببيوت اللّه، وهذا الإعداد والتجمّل للقاء اللّه فيها، هو مما يقيم في كيان المؤمن مشاعر التوقير والإجلال لهذا اللقاء، وممّا يهيئ كيان الإنسان الداخلى لمناجاة ربّه، بعد أن تطهّر وتزيّن لهذا اللقاء العظيم.
وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
هو دعوة إلى أن يأخذ الناس حظّهم من طيبات الحياة، وأن يذوقوا من نعم اللّه التي وضعها بين أيديهم، ولكن في غير إسراف، بل في قصد واعتدال، فإن الإسراف يفسد النعمة، ويفقدها طعمها الطيّب، حين يمتلىء الإنسان منها، ويلحّ على جسده بها.. إنها لا تلبث- حينئذ- أن تتحول إلى شيء تزهد فيه النفس، بل وتعافه. وهذا هو بعض الحكمة من النهى عن الإسراف.
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟} هو إغراء بالتنعم بنعم اللّه، والتجمل بها، وأخذ حاجة النفس منها.. ثم هو إنكار على من يأخذون على أنفسهم أو على الناس الطريق إلى نعم اللّه، ويزهدونهم فيها، أو يحرمونهم منها.. فلمن إذن هذه النعم؟
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
ويقول سبحانه هنا في هذه الآية: {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي زينة اللّه هذه التي أخرج لعباده، وهذه الطيبات من الرزق، هى للذين آمنوا في الحياة الدنيا، ينعمون بها، ويرون فضل اللّه عليهم فيها، فيزداد حمدهم له، ويقوى إيمانهم به.
ثم إن هذه النعم سينعمون بها يوم القيامة، تأتيهم من غير أن يبذلوا لها جهدا، خالصة من كل شائبة مما كان يشوبها في الدنيا.. فلا تزهد فيها نفس من شبع، ولا تملّها عين من نظر.. {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً}.
وتخصيص المؤمنين بالذكر هنا: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} إشارة إلى أن المؤمنين هم الذين يتعرفون على الطيبات من الرزق وينعمون بها، أما غير المؤمنين فلا يفرّقون بين طيب وخبيث، إذ لا دين لهم يحجزهم عن الخبيث، ويحول بينهم وبينه، فالطيب والخبيث على سواء عندهم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
هذه هى المحرمات التي حرّمها اللّه على عباده، وكلها خبائث، تفسد الطيّب إذا دخلت عليه.
والفواحش هنا، يراد بها الزّنا خاصّة، وما اتصل به من شهوة الفرج.
والإثم: المحرّمات التي حرّمها اللّه، من مأكولات، والتي توقع مقترفها في عداد الآثمين.
والبغي بغير الحق: العدوان على حدود اللّه، والتعدّى على حقوق العباد.
كالقتل، والسرقة، والخيانة للأمانة، وغيرها.
وفى وصف البغي {بغير الحق} على أن البغي لا يكون إلا بغير الحقّ أبدا- إشارة إلى هذا الوصف الملازم له، وتذكير به، وأنه عمل مجاف للحق، خارج عليه.
وقوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} هو مما نهى اللّه عنه، بل هو أول المنهيات، لأن الشرك باللّه رأس الكبائر، حيث لا يقبل عمل من مشرك.
وأخّر النهى عن الشرك هنا لأن الخطاب في مواجهة المؤمنين الذين دعوا إلى أخذ زينتهم عند كل مسجد، وإلى عدم التحرّج من أن ينالوا من طيبات ما أخرج اللّه لعباده من رزق، ثم بيّن اللّه سبحانه وتعالى لهم بعد ذلك ما حرّمه عليهم بعد أن رفع الحظر عن جميع المطعومات، ودعاهم إلى التمتع بها- فكان أول هذه المحرمات الفواحش، وهى شهوة غالبة من الشهوات المتمكنة في الإنسان، والتي كثيرا ما تفسد عليه دينه، ثم الإثم والبغي بغير الحق، وهما آفتان من الآفات المتسلطة على الناس في الحياة، حيث تدفع أهواء النفس وشهواتها بالناس إلى مقارفة الآثام، وإلى عدوان بعضهم على بعض، لإشباع تلك الشهوات، واسترضاء هذه الأهواء.. ثم الشرك باللّه، والمراد هنا هو ليس الشرك الصريح، القائم على عبادة غير اللّه، والإقرار بألوهية إله أو آلهة غيره، فذلك كفر باللّه، لا يعدّ صاحبه في المؤمنين أبدا، وإنما المراد بالشرك هنا الشرك الخفىّ الذي يتدسّس إلى الإنسان من غير أن يشعر به، وذلك كالاستدلال للناس استذلالا يقرب من العبادة، والنظر إليهم نظرة من يملكون التصرف في ملك اللّه، بما صار إلى أيديهم من سلطان أو بسطة في المال وسعة في الرزق، وكالاستظلال بظلّ ولىّ أو دعىّ، يدّعى الولاية أو تدّعى له لولاية، حيث يذهل المستظل به، عن إقامة وجهه خالصا للّه.. فهذا ونحوه هو من قبيل الشرك باللّه، وإن لم يكن شركا صريحا.. ولهذا وصف الشرك هنا ب قوله تعالى: {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} أي هو شرك لا حجة عليه، ولا دليل بين يديه، وإنما هو وهم وضلال.. وكل شرك لا حجة له، ولا دليل عليه، وإنما وصف الشرك هنا هذا الوصف ليلفت المؤمنين إليه، وليحذروا منه، لأنه شرك خفىّ، والمؤمن حريص على أن يتجنب الشرك كلّه، جليّه وخفيّه، فإذا قيل له احذر الشرك الذي لا حجة، له جعل يقلب وجوه الأمور التي بين يديه إذ ربما يكون فيها ما هو من هذا الشرك الخفي، وحاول أن يزن هؤلاء الأشخاص الذين استذل لهم، أو استظل بهم، بميزان الحق والعقل، وهل لهم مع اللّه ما يملكون به ضرّ أو نفعا، وهنا ينكشف له الأمر، ويرى أن كل شيء للّه، وأنه ليس لأى مخلوق- مهما بلغ من جاه أو سلطان- سبيل إلى شيء من ملك اللّه.
أما المشركون شركا صريحا فإنهم يجعلون لمن أشركوا به سلطانا، لأنهم لا يعرفون اللّه حق معرفته، ولا يقدرونه حق قدره.
وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} هو إلفات إلى ماللّه سبحانه وتعالى من كمال مطلق في صفاته، وأفعاله، وأن على المؤمن باللّه أن يتعرّف إلى اللّه سبحانه، وأن يعرفه حق معرفته، فإن من شأن هذا التعرف، وتلك المعرفة أن يصلاه باللّه، وأن يعزلاه عن مظان الشرك الخفي به، فلا يجعل لمخلوق مكانا مع اللّه في قلبه.. وبهذا الإيمان يستغنى باللّه، ويستعلى بوجوده عن الاستذلال أو الاستظلال بأى مخلوق، وإن عظم قدرا، وعلا في الناس شأنا.
والقول على اللّه بغير علم، هو من قبيل الفهم الخاطئ للّه، ومن هما يجىء الالتفات إلى غيره، والاعتماد على سواه.


{يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
تكرار المناداة بقوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ} لاختلاف المنادون من بنى آدم: من بين مؤمن، وكافر، ومشرك، وبين منتبه وغافل، وراغب في الهوى وزاهد فيه.. فهم أنماط شتى، وطوائف مختلفة، وكأن كل طائفة منهم تنادى نداء خاصا، وإن كان النداء عاما موجها للجميع.. وفى مخاطبة الناس بأبناء آدم تذكير لهم بأصل وجودهم، وأنهم كانوا في عالم التراب، وأن من هذا التراب جاء هذا الإنسان العاقل، السميع، البصير، وفى هذا ذكرى وموعظة لأولى الألباب.
وفى قوله تعالى: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} أصل إمّا: إن، وما، وهما شرطيتان، للتوكيد.
وفى قوله تعالى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} قصّ الآيات: حكايتها كما هى، دون تبديل أو تحريف فيها، ومنه قصّ الأثر وهو تتبعه. وفى هذا إشارة إلى أن الرسل إنّما يبلغون ما أنزل إليهم من ربهم، وأنهم لا يأتون بشىء من عند أنفسهم.
والناس فيما يلقاهم به الرسل من آيات اللّه وكلماته- فريقان: مصدّق ومكذب.. مؤمن وكافر.
فمن صدّق وآمن، وعمل بمقتضى صدقه وإيمانه، فاتّقى اللّه، واستقام على شريعته، فأنى ما تأمر به، وانتهى عما تنهى عنه، فقد سلم، ونجا، وأمن الخوف والحزن، يوم يخاف المكذبون، ويحزنون.. يخافون من عذاب اللّه الراصد لهم، ويحزنون على ما فاتهم من استجابة لرسل اللّه، واستقامة على شريعة اللّه.
ومن كذّب وأبى فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.. فقد ظلموا أنفسهم بافترائهم على اللّه، وقولهم إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا واللّه أمرنا بها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ}.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ}.
المراد بالكتاب هنا الكتاب الذي خطّت فيه أعمال الناس وأرزاقهم.. والمعنى أن هؤلاء الظالمين لن يحرمهم اللّه بسبب ظلمهم ما قدّر لهم في كتابه من أعمار وأرزاق، فهم سيوفّون ما قدّر لهم في هذه الدنيا. {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي حتى إذا انتهت أعمارهم وجاءتهم رسل الموت من عند اللّه ليقبضوا أرواحهم:
{قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ}.
أي أنهم إذا حضرهم الموت، انكشف لهم ما كانوا فيه من ضلال، واطلعوا على هذا المصير السيّء، الذي هم صائرون إليه، وهنا يتلفتون إلى من أشركوا بهم فلم يجدوا لهم وجودا معهم: {ضلّوا عنّا}!.
إنهم يبحثون عنهم في هذا المزدحم، فلا يرون لهم ظلّا.. لقد تركوهم ليلاقوا مصيرهم المشئوم..!
وقوله تعالى: {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} الشهادة هنا هى استيقانهم بواقع أمرهم، وأنهم كانوا على ضلال وكفر.. وتلك هى الشهادة التي شهدوا بها على أنفسهم، فكان حكما عليهم أدانوا أنفسهم به، قبل أن يدينهم الديّان.
قوله تعالى: {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ}.
إشارة إلى الرحلة الجديدة التي سيأخذ فيها هؤلاء الظالمون طريقهم إلى جهنم.. فمنذ اللحظة التي تنتزع فيها أرواحهم، يدخلون في عالم جديد، ويأخذون مكانهم بين من سبقهم من الظالمين، من الجنّ والإنس.
وهذه الأمم من ظلمة الجنّ والإنس، يعيش بعضها مع بعض في شقاق واختلاف، إذ لا تفاهم بينها، لما اشتملت عليه نفوسهم من أمراض خبيثة، تزعج أصحابها، وتزعج من يتصل بها.. {كلّما دخلت أمة لعنت أختها} فهم يتلاعنون، ويتشاتمون، كما يفعل المجرمون، تضمهم جدران السجن.
ثم لا يقف أمر هذه الجماعات عند هذا، بل إنهم حينما تجتمع جموعهم للحساب والجزاء، يتراشقون بالتهم، ويلقى بعضهم على بعض جريمته التي يحملها بين يديه:
{حتّى إذا أدركوا فيها جميعا} أي إذا أدرك بعضهم بعضا، ولحق آخرهم بأولهم في ساحة الحساب والجزاء: {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} وإضلال الأولين للآخرين هو بسبب متابعة الآخرين للأولين، وجريهم على ما كانوا فيه من ضلال، كما كانوا يقولون في الدنيا إذا جاءهم الهدى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
وفى طلب الآخرين للأولين مضاعفة العذاب لهم، محاولة يائسة لدفع العذاب الواقع بهم هم، وإلقاء ذنوبهم على آبائهم وأجدادهم الذين اقتفوا آثارهم، وكانوا بهذا من أصحاب السعير.
وفى قوله تعالى: {قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} ردّ على أوهام أولئك الذين تابعوا آباءهم وجروا على آثارهم، فإن لهم ضعفا من العذاب كما لآبائهم وأجداهم العذاب المضاعف، لأن كلّا منهم ضلّ وأضلّ.. فالأبناء الذين ضلوا بمتابعة آبائهم، قد ضلّوا، إذ لم يستعملوا عقولهم، كما أنّهم أضلّوا أبناءهم من بعدهم.. وهكذا السابق منهم يضلّ اللاحق، واللاحق يضلّ من بعده.
وقوله تعالى: {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هو دفع لهذا الاتهام الذي اتهم به اللاحقون السابقين.. وأنه إذا كان السابقون قد ضلّوا فإن اللاحقين قد ضلوا أيضا، ولم يكن لهم من عقولهم ما يحجزهم عن هذا الضلال، فهم إذن جميعا على سواء في الضلال.. فلم يضاعف العذاب للسابقين ولا يضاعف للاحقين؟
إنهم- سابقهم ولا حقهم- ضالون مجرمون.. ولكلّ ضعف من العذاب.
وفى قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هو من مقول القول الذي قاله السابقون للاحقين.. وأن هؤلاء اللاحقين إنما يذوقون العذاب بما كسبت أيديهم، ولن يحمل عنهم وزرهم أحد.
وهذا الخصام الذي بين أهل النار هو عذاب إلى عذاب، حيث يتبرأ بعضهم من بعضهم، ويتمنّى بعضهم لبعض مضاعفة البلاء والعذاب، وقد كانوا في دنياهم أصدقاء، وأحباء، وأقارب.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف].


{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}.
التفسير:
وإذ يساق أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يكون بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأشقياء والسعداء في الدنيا، من مشاعر مختلفة، ونظرات متصادمة! وفى هذا ما فيه من الكشف عن حال كل منهما، فيعرف أهل النار ما يجد أهل الجنة من نعيم، فتشتدّ حسرتهم وتتضاعف آلامهم، على حين يطّلع أهل الجنة على ما يلقى أهل النار من شدة وبلاء، فيزداد نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} تيئيس لأصحاب النار، وقطع لكل خيط من خيوط الأمل الواهية التي ينسجونها من الأوهام ليخلصوا من هذا البلاء الذي هم فيه.. وإنهم لن يخلصوا أبدا، ولن يخرجوا من النار أبدا.. ولقد سدّت عليهم منافذ السماء، فلا يقبل لهم عمل، ولا يسمع لهم دعاء: {لا تفتح لهم أبواب السماء} وأنهم لن يدخلوا الجنة التي ينظرون إليها وإلى أهلها، وما يلقون فيها من نعيم، وأنه إذا دخل الجمل في سم الخياط، دخلوا هم الجنة، وهذا تعليق بمستحيل، حسب طبيعة الأشياء، فلن يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدا، ولن يدخلوا هم الجنة أبدا.. {وكذلك نجزى المجرمين}.
وقد قرىء {الجمّل} وهو الحبل المجدول، الذي جمع عدّة حبال، فكان حبلا واحدا في جملته.
والسمّ: الثقب، ومنه سمى السّمّ لأنه ينفذ إلى جسم الإنسان من ثقب تثقبه حمة النحلة أو زنابى العقرب في جسد اللديغ.
وقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
المهاد: الفراش، يمهد ويعدّ للنوم عليه، ومنه: المهد، وهو فراش المولود.
والغواشي: جمع غاشية، وهى ما يغشى الإنسان ويظلله، حتى يكسر عنه حدّة الضوء أو يحجبه، ومنه الغاشية بمعنى الداهية التي تهجم على الإنسان، وقد همه.
فهؤلاء الأشقياء الذين ألقوا في جهنم، سيكون لهم مهاد، كما لأهل الجنة مهاد، ولكن هذا المهاد من النار! وسيكون فوقهم ظلّة تظلهم، كما لأهل الجنة ظلال تظللهم، ولكنها ظلة من لهيب جهنم ودخانها..!
وفى قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} تعليل لهذا التنكيل بهؤلاء المجرمين، لأنهم فوق أنهم مجرمون، قد جاوزوا حدود الإجرام، وبالغوا فيه، فبجرمهم دخلوا النار، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في الآية السابقة {كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} وبظلمهم ومجاوزتهم الحدّ في الجرم نكلّ بهم في جهنم، وضوعف لهم العذاب {وكذلك نجزى الظالمين} أي نبالغ في عذابهم كما بالغوا هم في إجرامهم.
ومما يضاعف في عذاب أهل النار، هذا النعيم الذي ينعم به أهل الجنة في مواجهتهم، فإذا هم أغمضوا أعينهم عن أن ينظروا إلى هذا النعيم، حسدا لأهله، امتلأت أسماعهم بكلمات تناجى أهل الجنة بنعيمهم، وتدعوهم إلى التمتع به كما يشاءون، غير مضيق عليهم في شيء منه، ولا محظور عليهم منه شىء، فهو ملك خالص لهم، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فهذا هو شأن أهل الجنة، وما يلقون فيها من تكريم وتنعيم.. إنهم أصحاب الجنة، وملّاكها، لا ينازعهم فيها أحد، شأن المالك فيما يملك.
وإذا كان أصحاب النار في خصام وشقاق، وفى تراشق بالسب واللعن، فإن أصحاب الجنة في مودة وسلام، وفى أنس وإخاء.. {ونزعنا ما في صدورهم من غل} فلا أضغان ولا أحقاد، ولا حسد، ولا بغضة.. وفيم يتحاسدون؟ وعلام يتباغضون؟ والخير يملأ كل ما حولهم، ليس لأحد منهم حاجة في شيء إلا وجدها بين يديه.. فليس فيهم غنى وفقير، وشقى وسعيد، إذ كلهم أغنياء من فضل اللّه، سعداء برحمته ورضوانه.. لا يجرى على ألسنتهم إلا الحمد والشكران، للّه رب العالمين، الذي هداهم إلى الإيمان، ووفقهم لمرضاة اللّه، والفوز بهذا النعيم الذي هم فيه. {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ} يشغلهم حمد اللّه والثناء عليه والتقلب بالنعيم الذي هم فيه، عن النظر إلى ما خلفوا وراءهم في الدنيا، وما أصابهم فيها من خير أو بلاء.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها- أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
ما يكشف عن فضل اللّه، ورحمته بعباده، وأن ما يكلّفه المؤمنون من أعمال صالحة، من طاعات وعبادات، هو مما تحتمله النفس، ويطيقه كل إنسان.. فلكل إنسان عمل على قدر طافته، وما تسع نفسه، إذا هو آمن وأخلص الإيمان للّه.
فقد رفع اللّه الحرج عن عباده، وأخذهم بلطفه فيما فرض عليهم من تكاليف.. فليس العمل الصالح المطلوب من لنؤمن عملا على إطلاقه، وإنما هو مقدور بقدر كلّ نفس وما تحتمل. فالمريض.. غير المعافى، والأعمى.
غير المبصر، والمقيد.. غير المطلق.. وهكذا.. فقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} اعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو بهذه الصفة قيد وارد على الإطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.
فما أوسع رحمة اللّه، وما أعظم فضله وكرمه!.
وفى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هو نداء من قبل الحقّ سبحانه وتعالى، يدعو به عباده المؤمنين إلى رحاب جناته، ثم يخلى بينهم وبينها، ويجعلها ميراثا لهم، يرثونه بسبب ما قدموا من أعمال صالحة، كما يرث الولد ما خلّف ولده، وما ثمّر له من مال.
فهذه أعمالهم التي عملوها في دنياهم قد ثمّرت لهم هذا الميراث، وإنه لميراث عظيم.. جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وذلك فضل من فضل اللّه، ورحمة من رحماته، وما تلك الأعمال التي عملها المؤمنون إلا أسباب موصلة إلى مرضاة اللّه، أما هى في ذاتها، فلا تعدّ شيئا إلى جانب هذا النعيم المقيم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8